المتابعون

الخميس، 24 أكتوبر 2024

مدينة الألف مئذنة والأربعين حرامي





بقلم / ميادة مدحت 

- لو علم المعز لدين الله الفاطمي خاتمة مدينته ما كان بدأ! 

أسررتها في نفسي وأنفاسي المتلاحقة تكاد تنقطع من اللهاث خلف المقاطع التي صارت تطالعنا بصورة شبه يومية لآلات الهدم العملاقة وهى تدمر قاهرة المعز. تمزق البلدوزرات أوصال العاصمة العتيقة، تنهار أحياء وشوارع، مقابر وبيوت. تسقط أشلاء التاريخ صرعى ليغرق ما تبقى منها في بحر امتزجت فيه دماء المدينة ودموع عجزنا. 
القاهرة فاطمية الجينات، ورثت عن ذويها البهاء وحب الحياة، مدينة ولدت صبية فلم تعرف قط طفولة أو وهن. ولدت عفية لتواجه الفسطاط السنية، وتتحرر من قبضة العباسيين. زهراء تزينت لتليق بالأزهر ويليق بها. كان الفاطميون أهل حب وعنف، بالغوا في الزينة وتطاولوا في البنيان لكن مظهرهم حمل في حناياه ما أسروا. و ابنتهم شابهتهم جمالا وعمقا، حبا وعنفا، ففضح مظهرها مخبرها وأغرى بها الغزاة والفاتحين. 
لم يمر على القاهرة أبهى من أهلها الذين حاولوا استعادة مجد قدماء المصريين وحبهم للحياة فرسموا على الخزف وجوههم وملابسهم، حيواناتهم وأصناف طعامهم. لم يتركوا شيئا من بهجة المصريين إلا استعادوه وبثوا فيه من روحهم. 

أحبهم المصريون لما لمحوه في أعينهم من حب للحياة، وسخروا منهم عندما أطل الجنون من أعين بعض حكامهم. وبقدر ما كانت حياة الفاطميين في مصر ملحمية الطابع، بهية المحيا، كانت نهايتهم محرقة دامية. أريقت دماءهم في الشوارع واستباحهم الأيوبي ورجاله، حتى مقابرهم لم تسلم من بطش الأيوبيين ومن بعدهم المماليك فهدمت قبورهم وتناثرت العظام أمام الناس ليقيم الخليلي فوقها شارعه الذي مازال قائما حتى اليوم أو حتى إشعار آخر! 
ويبدو أن القاهرة التي ورثت من أهلها البهاء، على موعد مع نهاية مأساوية تعيد فيها تجسيد قدر من شيدوها. ما يحدث الآن هو تدمير متعمد لعاصمة المعز وما كانت تمثله لقرون ممتدة من تفرد وعراقة. 

ما يحدث الآن هو نهب منظم وسرقات كبرى يندى جبين لصوص "على بابا" الأربعين لها. لصوص اليوم لا يخجلون ولا يسرقون بليل والناس نيام. إنهم يسطون على مدينتنا في وضح النهار، ينهبون كنوزها ثم يحطمون ما لا يستطيعون نهبه. وقلب المصريين، قاهري الهوى، يهوي في يأس مع كل ضربة جديدة تصيب المدينة التي أحبها الجميع حتى الذين كرهوا مؤسسيها.
 ألف عام مرت والمصريون ومن حكموهم يدخرون علومهم و فنونهم في جدرانها. تلك الدولة الأيوبية تبني التكايا لتشجع التصوف كبديل سني آمن للقضاء على ما بقى من تشيع فاطمي، وهؤلاء المماليك يبدعون في بناء الأسبلة والمساجد والمدارس إبداعا سلب لب العثمانيين. 

هل تعلم عصابة الأربعين حرامي أن الحجر له ذاكرة؟ تلك القبة شهدت اجتماعا سريا بين طومان باى وعناصر المقاومة الشعبية لتنظيم حرب شوارع ضد الغزاة العثمانيين، وذلك الشارع شهد مواجهة مع المماليك بعدما تحالفوا مع العثمانيين، وتلك مقبرة خبأ أهل المدينة سلاحا داخلها سيخرجونه لاحقا في ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرته ثم في ثورتها الثانية. وهناك ألمح أشلاء قبر رب السيف والقلم الذي انتفض مع عرابي ضد الخديو وقاتلا الإنجليز معا، تكاد تصرخ من شدة الظلم وفرط الجهالة.

لماذا يصر الحرامي والأربعون الذين معه على سرقة ذاكرتنا؟ بكم سيبيعون الحجر المهشم والجدران المحطمة؟ وإن وجدوا من يشتري الحطام فهل يصح أن يبيعوا التاريخ والذاكرة؟ عزيزي اللص هل ترى؟ هى أشياء لا تشترى!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق