المتابعون

السبت، 2 يوليو 2022

مرثية البيوت الجميلة .. وداعا أيتها العوامات!


بقلم/ ميادة مدحت

 

ولدت على بعد خطوات من بحيرة البرلس في بيت جدي لأمي. حفرت في ذاكرتي صورلحديقة كأنها الجنة ترفرف بين أشجارها عصافير الكون، وفي الجولة الليلية بمحاذاة البحيرة يلقي القمر تعويذته على الأمواج فتتحول إلى نهر من فضة .. شجرة الليمون التي تتوسط الحوش الخلفي وكأنها بطل أسطوري يقف وحده في مواجهة الرياح .. ما كنت أظنها تسقط يوما! لكنها سقطت أمام الجرافات التي هدمت المنزل المسحور الذي تحول بعدها إلى كائن شاهق الطول شديد القبح.

كنت أظن أن البيت انهدم لأني كنت طفلة ولو أنى كنت كبيرة وقتها كنت سأمنعهم من هدم السور ومن قتل الشجر في الحوش الأمامي .. لكني لم أفهم لماذا لم يستطع كل هؤلاء الكبار من حولي المقاومة .. لماذا لم ينجح أحدهم في طرد الجرافات من حرم المنزل؟ غادرني شعور الأمان منذ غادر المنزل وكبرت وأنا أرى الشوارع حولي تتغير والمدينة التي قضيت فيها طفولتي تفقد كل بيوتها الجميلة .. طاردت الجرافات كل الحدائق وحولتها إلى أبراج وفنادق.. وبقيت أحلم باسترداد بيتي أو إعادة بنائه يوما ما .. بيت له حديقه ويطل على أمواج النيل .. كانت العوامات أقرب شيء لحلمي المغدور لكن الحرب قامت!

حرب بلا هوادة قادها الهمج الجدد ضد بيوتنا الجميلة هدموا القصور وطاردوا كل مبنى له طراز معماري فريد حتى الجمال الدافيء الذي اختبأ بين أحضان الشجر على شاطيء النيل استهدفوه والان صارت تفصلنا ساعات عن مذبحة قدر لها أن تكون حرب إبادة ضد العوامات الطافية على صفحة النيل ربما لأنهم يعرفون أنه في غضون سنوات لن يكون هناك نيل لتطفو فوق صفحته !

الآن أعرف لماذا عجز الكبارعن إنقاذ بيتي وأنا صغيرة .. صرت مثلهم .. أكبر من أن أقاوم. أشعر بمرارة أصحاب العوامات وهم يحزمون ما تيسر من سنين العمر ومن أغراض وينتظرون في يأس لحظة النهاية.. إن تلك البيوت الجميلة التي ستهدم ستبقى قائمة في قلوب من سكنوها أبد الدهر مغروسة في وريدهم كخنجر لا يقتل ولا يرحم .. وفي خيالي ستبقى شجرة الليمون في شجرة جدي تقاوم جيوش الأسمنت وتتصدى للرياح دون أن تدري شيئا عن الواقع الذي تنتصر فيه الجرافات في كل معركة.. وبلا مقاومة !