المتابعون

الاثنين، 15 أبريل 2024

عنترة بن شداد عميدًا للنادي الأهلي


 

 

تحوَل حلم الخديو إسماعيل إلى كابوس غرقت فيه مصر في الدين حتى أنفها. ولم يكتف ذلك الأحمق بالاقتراض من الخارج فقد حباه الله بغلظة في القلب لا تقل عن حماقته ففرض الضرائب الباهظة على الناس حتى خرجت قرى بأكملها في الصعيد تتسول الخبز، وامتنعت الحكومة عن دفع رواتب موظفيها من المصريين في الوقت الذي كان فيه الأجانب يرتعون في أرض النيل وينهشون في خيراتها. وفي الوقت الذي بدأت فيه معركة الوعي على استحياء وتشكل الحزب الوطني القديم الذي صنع على عين جمال الدين الأفغاني، غابت الغالبية العظمى من أهل البلد خلف سحائب الدخان الأزرق بين الحشيش وحكايات أبو زيد الهلالي سلامة وعنترة بن شداد.

وعندما قرر خطيب الثورة العرابية وحكاءها الأعظم عبد الله النديم أن يؤسس جريدة التبكيت والتنكيت لم يفته أن يشخص الحالة المزرية التي كان عليها رجال مصر في زمنه؛ يحكي النديم – بالمصري الفصيح- قصة رجل أدمن حكايات الأدباتي في المقهى الشعبي الذي كان يسهر فيه عن عنترة بن شداد ومعاركه ضد الزغبي، وعلى امتداد بر مصر انقسم الرجال إلى فريقين: فريق يشجع الزغبي وفريق يتعصب لعنترة.

وذات ليلة يوقع الأدباتي عنترة في الأسر ثم يرفض أن يكمل الحكاية ويعود الرجل (العنتري) مغمومًا إلى بيته ثم يتذكر أنه اشترى قصة عنترة قبل ذلك و لأنه أمي لا يعرف القراءة أيقظ ابنه ليقرأ له ما تبقى من القصة ليطمئن قلبه على عنترة الأسير وعندما يضحك ابنه من جهله ويحاول أن يخبره حقيقة عنترة يطرده الأب من المنزل مشيعا باللعنات!

ما أشبه الليلة بالبارحة وأنا أرى الناس في بلادي يتقاتلون حول الأهلي والزمالك ولو أنهم عرفوا الحقيقة لأخرسوا الأدباتي وانتبهوا من غفلتهم ليستردوا الوطن ولكن عزائي أن النار تحت الرماد وأن النور يتسلل في خفة وإصرار لينتزع أرضا جديدة كل يوم. المجد للوعي والموت لعنترة والزغبي معًا.


*القصة بالكامل واردة في كتاب أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ".

الأحد، 24 مارس 2024

فيش الهوامش يا أكاديمي منك له! عن انحطاط الأكاديميا في زمن المسخ

بقلم / ميادة مدحت

 

جمعتني الأقدار بباحثة واعدة في مجال التاريخ الحديث والمعاصر، ودار بيننا حديث ذو شجون حول طائفة البهرة الهندية التي تنتمي إلى الشيعة الإسماعيلية. تحدثت الباحثة بحماس غاضب عن توغلهم في الاقتصاد المصري، وعن مخططاتهم للسيطرة على أضرحة آل البيت في مصر. وافترقنا على وعد منها بأن تحضر لي نسخة مطبوعة من بحث لها منشور في إحدى المجلات حول خطورة تلك الطائفة، وتخطيطهم للاستيلاء التدريجي على الحكم وإعادة الإمام الغائب في عقيدتهم.
تأخر اللقاء الثاني بضع سنين حتى التقينا صبيحة افتتاح الرئيس السيسي لضريح السيدة نفيسة وإلى جواره - رأسًا برأس- سلطان طائفة البهرة ومن خلفهم صورة الضريح الذي تغيرت هوية عمارته المصرية إلى الأبد بعد أن ارتدى ثوب المراقد الشيعية في الهند وإيران. ذكرت رفيقتي ببحثها القديم وطلبت نسخة منه فارتاعت ونفت كل ما قالته من قبل وقالت أن البهرة طائفة تعشق مصر ولها كثير من المآثر في أرض النيل وظلت تعدد تلك المآثر التي كانت في نظرها منذ سنين خطوات ماكرة في سبيل تحقيق المخطط الخبيث! وزادتني من الشعر بيتًا بأنها تعد الآن بحثًا عن أهمية البهرة وضرورة تعظيم الاستفادة من وجودهم في مصر.
بالطبع لا يمكنني التشكيك في نوايا الرئيس لأنه طيب ولطيف ولا أحد ينكر ذلك- مع الاعتذارللعرَاب أحمد خالد توفيق – وأنا في الوقت ذاته على يقين من أن تلك الباحثة الواعدة ستدعم بحثها الجديد بالهوامش اللازمة لتوثيق مصادر البحث وإن كنت في حيرة من أمري إذ كيف لها أن تعيد نشر نفس الوقائع التي أثبتت قبل سنوات إنها خطوات في مخطط خبيث، لتثبت في بحثها الجديد إنها إنجازات؟
الجهل الذي يحكم
العلاقة بين العلم والسياسة علاقة معقدة ولكنها ضرورية. ويختل ميزان تلك العلاقة عندما يتحول دور الأكاديميا من الأخذ بيد النظام في طريق الرشادة السياسية، والإنتاجية الاقتصادية، وتحقيق التماسك الاجتماعي إلى توفير ظهير أكاديمي مزيف لدعم القرارات المبنية على الجهل. في يوم ما يقرر أحد الرؤساء أن يعلن - من عندياته – رقمًا لأعداد الأجانب والعرب المقيمين في مصر، ولأنه رقم مخالف للحقيقة يحتجب أهل الاختصاص في ذلك العام والأعوام التي تليه عن إعلان إحصائية بالأرقام الصحيحة التي ما تزال أقل بكثير مما أعلنه الرئيس. وتثور ثائرة تنظيم "أبناء كيميت" – وكيميت منهم براء- فيتخذون من التصريح تكئة لشن حرب كراهية ضد السوريين والسودانيين في مصر، ويشبهونهم بالهكسوس دون أن يجرؤ عالم مصريات واحد أو مؤرخ فرد على توضيح جهل هؤلاء بتاريخ وطنهم فهو إن فعل ذلك سيكون قد كذَب، ضمنَا، كبيرهم الذي علمهم الجهل. المدهش في الأمر أننا لم نسمع كلمة واحدة من هؤلاء المرتزقة لرفض بيع الوطن جملة وبالقطعة لمستثمري الخليج القادمين بجيوش من دولارات النفط وكأن غزو هؤلاء لمصر حلال!
في ظل غياب المعرفة الحقيقية وصمت العلماء تتحوَل الدولة من فاعل عقلاني إلى آلة بطش تتصرف بحماقة. والحق أن الحاكم الذي يكمم صوت العلماء، ويقيد العمل الأكاديمي بإطلاق يد الأجهزة الأمنية في مراقبة الحياة الأكاديمية، وكبت الحريات داخل الحرم الجامعي، الحق أن ذلك الحاكم يتنازل طوعًا عن مصدرمهم من مصادر الإدارة ألا وهو المعرفة وهى لا تقل أهميةً عن القوة والقانون.   
كل هذا مشكل حقا لكن الكارثي في الأمر أن يرتدي الجهل زيًا رسميًا وينال رتبة مثلما حدث مع اللواء – غير مقاتل- عبد العاطي كفتة الذي دعمته أكبر مؤسسات مصر بكل ما لها من مصداقية عند الجموع الغفيرة. وخرج الرجل يتباهى بجهله زاعمًا أنه اخترع جهازا له القدرة على تشخيص وعلاج وشفاء الأمراض المستعصية. صدقه الجهلاء وكان ذلك متوقعًا لكن أين كان علماء مصر وهم يرون ذلك العبث يطالعنا على شاشات التفاز الرسمية وشبه الرسمية، وصفحات الصحف القومية؟ لم يعترض أحد أو أن اعتراضهم كان على استحياء ولم ينجح أحد في هذا الامتحان سوى العالم الشاب وقتها عصام حجي.   
لماذا حكم الجهل؟
إن مجتمعات المعرفة معترفة بمحدودية علمها وهى بارعة في إدارة الجهل واستثمار العلم. وعندما يصمت العلماء في وطن أو يتم إخراسهم في بلد ما فلا شك أن الجهل سيكون هو سيد الموقف والحاكم بأمره في ذلك البلد.
أتساءل أحيانًا كيف حكم الجهل بلدًا ما أكثر العلماء فيه؟ ولا أجد إجابة مقنعة سوى أن المسئولين وأعضاء الأحزاب السياسية في بلدنا غير مثقفين فهم صنيعة مؤسسات لا تعرف تداول السلطة أو تعدد الآراء. كما أن تجفيف المنابع السياسية منذ يوليو الأسود (1952) قد حجب أجيالا متعاقبة عن الممارسة السياسة الحرة بما تشمله من تمرَس يحتاج إلى دراسة قواعد علم السياسة والتعرف إلى علم الاجتماع السياسي والتثقف في تاريخ البلد وجغرافيته.
وتجيء ثاني المآسي في إصرار عدد من مثقفينا المرموقين على عدم ممارسة السياسة وكأنها سبة وشبهة سفاهة ينأى عنها المفكرون بأنفسهم! في الوقت ذاته يهرول أغلب المثقفين ممن يدلفون إلى معترك السياسة نحو الحزب الحاكم فهم يعرفون أن الثمن الذي سيدفعه لهم النظام سيكون مجزيًا حتى وإن أراقوا في سبيله دماء وجوههم وعقولهم على حد سواء. ومن هنا يسود الجهل ويتحكم الجهلة في العلماء.    
مصير الأكاديميين الأحرار
في ظل سيطرة الجهل ينقسم مجتمع الأكاديميا إلى ثلاث فرق. تضم الفرقة الأولى المهرولين إلى حظيرة السلطة وقد رأينا أعلاه مسلكهم وهؤلاء رفيقهم الفشل أينما حلوا فمنهم من أطاح به صفر المونديال، ومنهم من انبرى بعد مقتلة كبرى للثوار للدفاع عن الداخلية التي (ليس لديها خرطوش) وكلما ارتفع صوته انخفضت قيمته وتضاءلت قامته. ومنهم من بشرنا بإحداث (خرم) في جسد سد الخراب بإثيوبيا، ثم لمح الذهب في يد البدو فهرول إليهم مهاجمًا النظام في مصر لصالح السادة الجدد. هؤلاء بارعون في تفييش الهوامش ولى أعناق المصادر والمراجع فيلبسون الباطل ثوب الحق ويصيرالجهل المطبق في شرعهم علمًا لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم.
أما الفرقة الثانية فهى تضم فريقان: الفريق الأول ممن يسمعون الكلام ويشربون اللبن قبل النوم فهؤلاء ليس لهم من الدنيا حظ سوى المراجع والأبحاث فهم غائبون بالكلية عن حال البلاد والعباد فلا هم لهم سوى توفير القوت وإتمام أبحاث الترقية والمشاركة في المؤتمرات. هؤلاء من ينالون أعلى الدرجات العلمية دون أن ينبت في رؤوسهم وعي حقيقي، وهم من تتكدس أبحاثهم في المكتبات الجامعية دون أن يقرأها أحد. أما الفريق الثاني من هؤلاء فهم من يعرفون ما يدور حولهم وربما لا يعجبهم لكنهم يؤثرون الصمت ويلوذون بالكتب لعلها تعصمهم من الماء إذا جاء طوفان قريب. هؤلاء أكثر خبثًا من الحيات وأكثر جبنًا من الفئران فهم يختارون الحياد وقت المعارك الكبرى مؤثرين السلامة وحجتهم في ذلك أن الأكاديمي ليس مرغمًا على إسداء النصح للسلطة. هؤلاء ينجون أحيانًا بفعلتهم حيث يؤثرون التحدث بشكل موضوعي جامد في أبحاث يحرصون بحياتهم على ألا تصل للعامة أو للسلطة. وهم من يزعمون وقت الحساب أنهم لم يكونوا للمجرمين ظهيرًا.
وبخلاف هؤلاء وهؤلاء تقف الفرقة الثلاثة من الأكاديميين في مواجهة الوحش لا فرق بينهم وبين غيرهم سوى مضغة صغيرة اسمها الضمير. يقرر الأكاديميون الأحرار أن يواجهوا الجهل بعلمهم، ومثل بروميثيوس يسرقون نار المعرفة فيشيعونها في الناس ويشهرونها في وجه الجهل الذي يحكم. وفجأة يجد هؤلاء الأحرار أنفسهم في مواجهة وحش مرعب بثلاثة رؤوس: سلطة لا تريد سماع الحقيقة التي تخالف هواها، وعلماء كذبة ينشدون أغاني الظالم ويلبسونه مسوح العلماء والعارفين، ومجتمع تتخطفه الحيرة أمام الآراء المتضاربة فيضطرب الوعي العام بشكل يكاد يستحيل معه تحقيق التنوير المؤدي إلى الخلاص والنهضة. ويقرر الأكاديميون الأحرار مواجهة كل ذلك فيحترقون حتى يضيء أمام الوطن طريق المستقبل فمنهم من قضى نحبه بعد اعتقال وتشريد ومنهم من اختفى قسريا ومنهم من ينتظر.   



تفييش الهوامش 

    Innerarity, D. (2013). Power and knowledge: The politics of the knowledge society. European journal of social theory16(1), 3-16.
     Beck, U. (2005). Knowledge or unawareness. Two Perspectives on “Reflexive Modernization.” In: N. Stehr, R. Grundmann (eds.), Knowledge: Critical Concepts, 340-362.

      
 

السبت، 2 مارس 2024

الحفر في البلاعة وضلالات الزعامة

 

كنت مصيبة ولم أكن طفلة مثل الأطفال. رفضت التسليم بأني معتلة الصحة، ضعيفة الجسد وقد ساعدني في ذلك ما حباني الله به من ذكاء إجرامي فطري، وقدرة على التفلسف بل والسفسطة إن لزم الأمر. وكان خيالي واسعا كما نقول بعاميتنا المصرية، أوسع من ذمة حكام العرب جميعا. 


تسبب ذلك الخيال الواسع ذات مرة في حالة هلع داخل مدرستي  الابتدائية عندما اخترعت (بعبعا) وقلت أن الجميع في خطر وأني  الوحيدة التي يمكنها رؤيته وربما أكون الوحيدة القادرة على  مواجهته وحماية الجميع من شره. يومها تم إجراء تحقيق في المدرسة، وكانت صدمة للمدرسين عندما  عرفوا أن تلميذة بالصف الأول الابتدائي هى التي أشاعت تلك  الفوضى، وأذكر أن إحدى المدرسات عبرت عن ذهولها بسؤال: 

- كيف استطاعت عقلة الإصبع هذه أن تبث الذعر في نفوس أولاد

 في الصف السادس الابتدائي؟

طردت من المدرسة ولم يسمح لي بالعودة إلا مع ولى أمري ولكني  لم أرتدع فعندما عدت وجدت الجميع يرددون القصة، ويعيدون  تدوير الشائعة ثم يلوذون بي لحمايتهم من الوحش الذي كان  صنيعتي من الأساس.

 وتطور الأمر أو - بمعنى أدق- تدهور فقد دفعتني الحشود المصدقة لأن أصدق نفسي وأؤمن أن ما أراه من ضلالات هو الحق والحقيقة. قلت أن عروس البحر حقيقة وصدقني الأطفال فصدقت، وأصبح أي عاقل من الكبار يصارحني أن عروس البحر أسطورة، عدوا وغبيا وضيق الأفق. وهكذا أصبحت أقول فيصدقني الأطفال وأحببت الزعامة التي منحني إياها الخيال حتى جاء اليوم الموعود.

وجدت في الشارع غطاء حديدي قديم محكم الغلق، وقلت في نفسي  لابد أن هذا الإغلاق المحكم قد حدث لحماية شيء ثمين جدا، وقالت  لي نفسي أن هذا الشيء هو بالضرورة كنز لا مثيل له. حشدت  الجموع من أطفال الحي وأعلنت لهم البشارة، في حينا كنز ثمين

 ولكن لابد أن نحفر تحت هذا الغطاء الأثري العجيب وحوله حتى  نستخرج الكنز. هرول كل طفل إلى منزله ليجلب أداة تصلح لحفر  باطن الأرض، وفي دقائق معدودة كانوا جميعا في الموقع في  انتظار صافرة البدء. وقد حالفني الحظ لأن تلك الساعة قد وافقت

 وقت القيلولة حيث كان الكبار العاقلون نائمين- وما أخطر أن يغفو  العقلاء! 


بدأ الحفر بهمة وحماس وسعادة لم يعكرها سوى ذلك الرجل الأحمق  الذي لم أعرف لماذا لم يكن نائما كغيره من الكبار؟ أصر الرجل  على تنبيه الأطفال أن ما يحفرونه هو (بلاعة) وأن الحفر هنا  ستكون عواقبه وخيمه. هاجمته بشراسة وقلت للأطفال أنه لص  يريد إحباطهم ليظفر وحده بالكنز فهاجموه وألقوا عليه حفنة من  التراب فترك المكان وشعرت بارتياح. 

في أثناء الحفر قال أحد الأطفال أنه يشم رائحة كريهة فاتهمته  بالقذارة وعدم الاستحمام وأكدت للجميع إنها رائحته هو وإن عليه  الذهاب للاستحمام ثم العودة لمواصلة الحفر. 

استمرت المهمة تحت قيادتي ولكني بدأت ألمح مزيدا من الوجوه  المشمئزة من الرائحة التي خرجت علينا من الحفرة، تجرأ بعضهم  وقالوا أن هناك رائحة كريهة تزيد كلما كان الحفر أعمق، بينما لم  ينطق الآخرون لكنهم - و الحق يقال- استمروا جميعا في الحفر.

اقترب الحلم وكاد يصبح حقيقة لولا أن ذلك الرجل الذي لا يغفو مر  بنا مرة أخرى ونهر أطفالي بشدة ثم تجرأ ونهرني أنا أيضا وفي  تلك المرة لمحت في أعين الأطفال تصديقهم لهذا الرجل لا سيما  وقد صارت الرائحة أقوى من أن يتم تجاهلها. 

هنا راودتني الفكرة العبقرية- مثل كل أفكاري بالطبع- فاتهمت  الرجل بأنه ساحر يعمل لصالح(البعبع) وأنه هو من أطلق بسحره  هذه الرائحة البشعة ليفسد علينا فرحتنا ويوقف مسيرتنا نحو الكنز.

 ولست أدري كيف؟ ولكن الأطفال صدقوني وهاجموا الرجل بشكل  أعنف هذه المرة. 

وكنت أعرف أن الرائحة لن تختفي حتى ولو ذهب ذلك الرجل بلا رجعه. وهنا قررت أن أصارح هؤلاء المساكين بالحقيقة 

- هذا غطاء بلاعة بالفعل لكن الكنز يرقد تحت المجاري، ستكون المهمة شاقة أكثر مما كنت أظن ولكن الكنز موجود لاشك في ذلك. والمهمة الآن تطوعية ولكن من ينسحب الآن لن ينال شيئا من الكنز ولن يلعب معنا مرة أخرى. 

بكى بعض الأطفال قهرا ولكن الجميع- وياللعجب- استمروا في  الحفر. ولم أكن أعرف أن الرجل الذي رحل عنا، بعد اتهامه  بالسحر والعمالة للبعبع، لم يذهب إلى حال سبيله بل توجه إلى  الكبار العاقلين ليوقظهم. حاول الرجل إقناع العقلاء بضرورة إنقاذ  الأطفال بل وإنقاذ الحي بأكمله من تلك الطفلة المستبدة التي تقود  الجميع نحو (المجرور) بسرعة هائلة وحماس منقطع النظير. إن  عالم الكبار له طبيعته المختلفة فهم يتحدثون كثيرا - وهم ليسوا

 كالأطفال- فهم لا يتحدون بسهولة خلف حلم واحد ولا يرتضي  أحدهم بالانصياع إلى الآخر فكل منهم زعيم على طريقته. والأجمل  من ذلك من وجهة نظري - كزعيمة للأطفال- أنهم لا ينسون  خلافاتهم أبدا. لست أدري من أين يأتون بكل هذه الأسباب للخلاف؟  وكيف يتمتعون بهذه القدرة على الاشتباك في أحاديث معقدة لا  يمكنني فهمها دون أى قدرة على قيادة الأطفال أو إقناعهم بأى فكرة  كما كنت أفعل أنا؟

 

فاض المجرور وغرق بعض الأطفال في البلاعة بينما الكبار  يتحاورون، ويبدو أنها كانت (البلاعة الأم) فقد فاحت الرائحة حتى  تأذى سكان الأحياء المجاورة منها. وعندما عمت الفوضى رأيت  الأغراب يدخلون حينا من الجهات الأربع، ورأيتهم يأخذون كل ما

 لم يتلوث بعد.  رأيت أشياء جميلة تغرق في المخلفات، وصارت الرائحة لا تطاق

 صحيح أن يداي نظيفتان فقد كنت أشرف على الحفر دون أن  أشترك فيه لكن الوضع كان دافعا للفرار إلى أبعد نقطة ممكنة، وأنا  أفر رأيت البعبع لأول مرة - هذه المرة كان حقيقيا وكان يتأهب  للافتراس.

 كلما تذكرت تلك الواقعة تراودني أسئلة كثيرة: ترى ما الذي كان سيحدث لو توقف الأطفال عن الحفر بمجرد خروج الرائحة الكريهة؟ ولماذا لم يصدقوا الرجل الكبير عندما واجههم بالحقيقة؟ لماذا صدقوني أصلا عندما أخبرتهم بأمر البعبع؟ وكيف صدقوا أننى الوحيدة القادرة على مواجهته وليس هؤلاء الكبار؟ ثم يراودني السؤال ماذا لو لم يغفو العقلاء؟

 

- ماذا؟ تسألون عن الكنز؟

لا. لم يخرج الكنز من تحت البلاعة ولكن الكنز في الرحلة - كما  تعلمون- صحيح أن الأطفال يكبرون لكن الحفر في البلاعة فكرة  والفكرة لا تموت. أم أنها تموت؟