المتابعون

السبت، 2 مارس 2024

الحفر في البلاعة وضلالات الزعامة

 

كنت مصيبة ولم أكن طفلة مثل الأطفال. رفضت التسليم بأني معتلة الصحة، ضعيفة الجسد وقد ساعدني في ذلك ما حباني الله به من ذكاء إجرامي فطري، وقدرة على التفلسف بل والسفسطة إن لزم الأمر. وكان خيالي واسعا كما نقول بعاميتنا المصرية، أوسع من ذمة حكام العرب جميعا. 


تسبب ذلك الخيال الواسع ذات مرة في حالة هلع داخل مدرستي  الابتدائية عندما اخترعت (بعبعا) وقلت أن الجميع في خطر وأني  الوحيدة التي يمكنها رؤيته وربما أكون الوحيدة القادرة على  مواجهته وحماية الجميع من شره. يومها تم إجراء تحقيق في المدرسة، وكانت صدمة للمدرسين عندما  عرفوا أن تلميذة بالصف الأول الابتدائي هى التي أشاعت تلك  الفوضى، وأذكر أن إحدى المدرسات عبرت عن ذهولها بسؤال: 

- كيف استطاعت عقلة الإصبع هذه أن تبث الذعر في نفوس أولاد

 في الصف السادس الابتدائي؟

طردت من المدرسة ولم يسمح لي بالعودة إلا مع ولى أمري ولكني  لم أرتدع فعندما عدت وجدت الجميع يرددون القصة، ويعيدون  تدوير الشائعة ثم يلوذون بي لحمايتهم من الوحش الذي كان  صنيعتي من الأساس.

 وتطور الأمر أو - بمعنى أدق- تدهور فقد دفعتني الحشود المصدقة لأن أصدق نفسي وأؤمن أن ما أراه من ضلالات هو الحق والحقيقة. قلت أن عروس البحر حقيقة وصدقني الأطفال فصدقت، وأصبح أي عاقل من الكبار يصارحني أن عروس البحر أسطورة، عدوا وغبيا وضيق الأفق. وهكذا أصبحت أقول فيصدقني الأطفال وأحببت الزعامة التي منحني إياها الخيال حتى جاء اليوم الموعود.

وجدت في الشارع غطاء حديدي قديم محكم الغلق، وقلت في نفسي  لابد أن هذا الإغلاق المحكم قد حدث لحماية شيء ثمين جدا، وقالت  لي نفسي أن هذا الشيء هو بالضرورة كنز لا مثيل له. حشدت  الجموع من أطفال الحي وأعلنت لهم البشارة، في حينا كنز ثمين

 ولكن لابد أن نحفر تحت هذا الغطاء الأثري العجيب وحوله حتى  نستخرج الكنز. هرول كل طفل إلى منزله ليجلب أداة تصلح لحفر  باطن الأرض، وفي دقائق معدودة كانوا جميعا في الموقع في  انتظار صافرة البدء. وقد حالفني الحظ لأن تلك الساعة قد وافقت

 وقت القيلولة حيث كان الكبار العاقلون نائمين- وما أخطر أن يغفو  العقلاء! 


بدأ الحفر بهمة وحماس وسعادة لم يعكرها سوى ذلك الرجل الأحمق  الذي لم أعرف لماذا لم يكن نائما كغيره من الكبار؟ أصر الرجل  على تنبيه الأطفال أن ما يحفرونه هو (بلاعة) وأن الحفر هنا  ستكون عواقبه وخيمه. هاجمته بشراسة وقلت للأطفال أنه لص  يريد إحباطهم ليظفر وحده بالكنز فهاجموه وألقوا عليه حفنة من  التراب فترك المكان وشعرت بارتياح. 

في أثناء الحفر قال أحد الأطفال أنه يشم رائحة كريهة فاتهمته  بالقذارة وعدم الاستحمام وأكدت للجميع إنها رائحته هو وإن عليه  الذهاب للاستحمام ثم العودة لمواصلة الحفر. 

استمرت المهمة تحت قيادتي ولكني بدأت ألمح مزيدا من الوجوه  المشمئزة من الرائحة التي خرجت علينا من الحفرة، تجرأ بعضهم  وقالوا أن هناك رائحة كريهة تزيد كلما كان الحفر أعمق، بينما لم  ينطق الآخرون لكنهم - و الحق يقال- استمروا جميعا في الحفر.

اقترب الحلم وكاد يصبح حقيقة لولا أن ذلك الرجل الذي لا يغفو مر  بنا مرة أخرى ونهر أطفالي بشدة ثم تجرأ ونهرني أنا أيضا وفي  تلك المرة لمحت في أعين الأطفال تصديقهم لهذا الرجل لا سيما  وقد صارت الرائحة أقوى من أن يتم تجاهلها. 

هنا راودتني الفكرة العبقرية- مثل كل أفكاري بالطبع- فاتهمت  الرجل بأنه ساحر يعمل لصالح(البعبع) وأنه هو من أطلق بسحره  هذه الرائحة البشعة ليفسد علينا فرحتنا ويوقف مسيرتنا نحو الكنز.

 ولست أدري كيف؟ ولكن الأطفال صدقوني وهاجموا الرجل بشكل  أعنف هذه المرة. 

وكنت أعرف أن الرائحة لن تختفي حتى ولو ذهب ذلك الرجل بلا رجعه. وهنا قررت أن أصارح هؤلاء المساكين بالحقيقة 

- هذا غطاء بلاعة بالفعل لكن الكنز يرقد تحت المجاري، ستكون المهمة شاقة أكثر مما كنت أظن ولكن الكنز موجود لاشك في ذلك. والمهمة الآن تطوعية ولكن من ينسحب الآن لن ينال شيئا من الكنز ولن يلعب معنا مرة أخرى. 

بكى بعض الأطفال قهرا ولكن الجميع- وياللعجب- استمروا في  الحفر. ولم أكن أعرف أن الرجل الذي رحل عنا، بعد اتهامه  بالسحر والعمالة للبعبع، لم يذهب إلى حال سبيله بل توجه إلى  الكبار العاقلين ليوقظهم. حاول الرجل إقناع العقلاء بضرورة إنقاذ  الأطفال بل وإنقاذ الحي بأكمله من تلك الطفلة المستبدة التي تقود  الجميع نحو (المجرور) بسرعة هائلة وحماس منقطع النظير. إن  عالم الكبار له طبيعته المختلفة فهم يتحدثون كثيرا - وهم ليسوا

 كالأطفال- فهم لا يتحدون بسهولة خلف حلم واحد ولا يرتضي  أحدهم بالانصياع إلى الآخر فكل منهم زعيم على طريقته. والأجمل  من ذلك من وجهة نظري - كزعيمة للأطفال- أنهم لا ينسون  خلافاتهم أبدا. لست أدري من أين يأتون بكل هذه الأسباب للخلاف؟  وكيف يتمتعون بهذه القدرة على الاشتباك في أحاديث معقدة لا  يمكنني فهمها دون أى قدرة على قيادة الأطفال أو إقناعهم بأى فكرة  كما كنت أفعل أنا؟

 

فاض المجرور وغرق بعض الأطفال في البلاعة بينما الكبار  يتحاورون، ويبدو أنها كانت (البلاعة الأم) فقد فاحت الرائحة حتى  تأذى سكان الأحياء المجاورة منها. وعندما عمت الفوضى رأيت  الأغراب يدخلون حينا من الجهات الأربع، ورأيتهم يأخذون كل ما

 لم يتلوث بعد.  رأيت أشياء جميلة تغرق في المخلفات، وصارت الرائحة لا تطاق

 صحيح أن يداي نظيفتان فقد كنت أشرف على الحفر دون أن  أشترك فيه لكن الوضع كان دافعا للفرار إلى أبعد نقطة ممكنة، وأنا  أفر رأيت البعبع لأول مرة - هذه المرة كان حقيقيا وكان يتأهب  للافتراس.

 كلما تذكرت تلك الواقعة تراودني أسئلة كثيرة: ترى ما الذي كان سيحدث لو توقف الأطفال عن الحفر بمجرد خروج الرائحة الكريهة؟ ولماذا لم يصدقوا الرجل الكبير عندما واجههم بالحقيقة؟ لماذا صدقوني أصلا عندما أخبرتهم بأمر البعبع؟ وكيف صدقوا أننى الوحيدة القادرة على مواجهته وليس هؤلاء الكبار؟ ثم يراودني السؤال ماذا لو لم يغفو العقلاء؟

 

- ماذا؟ تسألون عن الكنز؟

لا. لم يخرج الكنز من تحت البلاعة ولكن الكنز في الرحلة - كما  تعلمون- صحيح أن الأطفال يكبرون لكن الحفر في البلاعة فكرة  والفكرة لا تموت. أم أنها تموت؟

 

هناك 4 تعليقات:

  1. دماااغ من زمااان
    ربنا يسعد اوقاتك
    انا كمان فهمتها بشكلها العميق
    كل الشكر والتقدير

    ردحذف
  2. لو امكن ... رابط صفحت حضرتك على الفيس !!

    ردحذف
  3. https://www.facebook.com/maiada.medhat?mibextid=ZbWKwL

    ردحذف