المتابعون

الاثنين، 6 فبراير 2017

الطريق إلى الهند يبدأ بالحرية





بقلم ميادة مدحت


استحوذ سحر الهند على مخيلتي منذ الطفولة، كانت الصورة المبهرة التي تقدمها أفلام بوليوود همزة وصل بين وجداني وتلك البلاد البعيدة التي يركبون فيها الأفيال ويعبدون فيها عشرات الآلهة. و مع مرور السنوات ودراستي للأدب الإنجليزي ثم للعلوم السياسة وبالتحديد العلاقات الأوربية المتوسطية ترسخ اليقين بداخلي أن الشرق للشرق دواء وأن الاتجاه شرقًا هو الحل الأكثر نجاعة إن كنا نبحث عن تحقيق مصالحنا الإستراتيجية من خلال علاقات اقتصادية وسياسية متكافئة. وكان كتاب المفكر ميلاد حنا أعمدة الحضارة السبعة ماثلا أمامي بالمقارنة التى عقدها بين الصين ومصر، ذلك الكتاب الذي كشف لي المشتركات بيننا وبين حضارات الشرق الأقصى، ولكن بقى اللغز يؤرقنى لماذا سبقتنا الهند والصين بينما نحن مازلنا فى المؤخرة ؟


وبعد سنوات طويلة من الحلم جاءتني الفرصة لالتقى معشوقتى القديمة "الهند" عندما حصلت على منحة من دولة الهند لدراسة برنامج بعنوان


Cross Cultural Understanding and Strategies for Business Growth.


خلال الفترة من 5 حتى 16 ديسمبر 2016 في معهد الدولي للإدارة في نيودلهي.  منذ اللحظة الأولى شعرت أن نسيم هذا البلد يعانق روحى ، منذ اللحظة التى تحولت فيها  المقابلة مع السكرتير الأول فى سفارة الهند السيد إس ناتشين من اختبار شخصى إلى ما يشبه لقاء بين صديقين حميمين ..صداقة بعمق حضارة البلدين ورحابتهما. ثم كان أول وجه ألتقي به فى مطار إنديرا غاندى بالعاصمة الهندية نيودلهي هو السيد فيشنو وهو صديق الطلبة فى المعهد الدولى للإدارة مبتسم دائما ومتعاون لأقصى مدى ، وكانت دهشتي فى الطريق من المطار إلى المعهد حيث الشوارع تشبه شوارع مصر إلى حد بعيد فكأنه الطريق إلى القلعة ثم المنطقة الأفقر وكأنها عبود! وقد اتفقت معى فى ذلك صديقتي الصربية التى زارت القاهرة قبل ذلك ومكثت فيها عدة أيام.


لم أر فى الطريق أفيالا ولا قرود ! لكن الطريق مكتظ بسيارات حديثة المقود يها على اليمين كما في انجلترا على عكس المعمول به فى مصر والولايات المتحدة الأمريكية. وصلت إلى المعهد وصعدت للعشاء حيث كانت المفاجأة الأولى فالطعام حريف إلى درجة غير معقولة ، نعم قرأت عن طعامهم فى كتاب 200 يوم حول العالم لأنيس منصور ولكن من قرأ ليس كمن تذوق فالخبز نفسه حريف ومتبل وقد قدموا لنا نوعين من الخبز أحدهما محشو بالخضروات والآخر جاف وهش ! ولم تخلو غرفتى من الشاي الهندى ولوحة جميلة لأفيال مزركشة.


وفى الصباح بدأت الدراسة بإشعال شعلة الحكمة وهى تمثال من الذهب عل شكل عصا يقف على رأسها  ديك يبدأ الأساتذة بإشعال عض الثقاب حولها ثم نشعلها نحن واحدًا تلو الآخر.  ومنذ اليوم الأول بدأت فى حل لغز تقدم الهند؟ فالانضباط كان مذهبنا الإفطار من الثامنة إلى التاسعة صباحًا، ثم تبدأ المحاضرات في تمام التاسعة ونصف حتى الخامسة مساءً يتخللها استراحتين للشاي والقهوة واستراحة غداء. المواعيد منضبطة تماما وغير مسموح بتجاوزها. 

  

شعلة الحكمة


  

 


 

 

 

 


كان موضوع الدورة التدريبية يدور حول بيئة العمل في عصر العولمة وكيف يؤثر التفاعل بين العاملين من دول وثقافات مختلفة على بيئة العمل في الشركات متعددة الجنسيات ، كما تناولت الدورة أيضا استراتيجيات تنمية الأعمال في الاقتصاديات الناشئة. كانت المحاضرات تمتد يوميا منذ الساعة التاسعة ونصف صباحًا حتى الخامسة مساءً لمدة ستة أيام في الأسبوع ما عدا الأحد. تعرفنا على أنماط التواصل في بيئة العمل متعددة الثقافات وملامح التنوع الثقافي، استراتيجيات تنمية الأعمال في الاقتصاديات الناشئة، وتحديات التوظيف في إطار قضايا العمر والنوع الاجتماعي (الجندر) والتنوع العرقي. كما تناولنا كيفية الموازنة بين الحياة والعمل و مستويات الثقافة المختلفة التي تتنوع بين المعتقدات والأنماط الذهنية والأحكام المسبقة عن الآخر. و تناولت المحاضرات الحديث عن الاختلافات بين الأفراد وتمييز أسباب الاختلاف سواء فردية أو ثقافية. ومستويات التفاعل الثقافي بين المؤسسات وداخل المؤسسات. ودرسنا كيفية التعامل مع العولمة ومتغيرات بيئة العمل، وأنظمة إدارة الأداء والعوامل التي تؤثر على أداء العاملين في المؤسسات المختلفة، ومواصفات المدير الناجح، بالإضافة إلى آليات اكتشاف المواهب وتنميتها. كما تناولت المحاضرات التفاعل الإثنوجرافى في بيئة العمل، وأنماط الاستهلاك، بالإضافة إلى مبادئ التمويل ودراسة الجدوى الاقتصادية للمشروعات المختلفة، والتجارة الدولية قضايا وتحديات.


 أثناء مناقشاتي مع الأساتذة والطلبة الهنود تعرفت عن قرب على الديمقراطية الهندية فكل مواطن هندي لديه الحق أن يقول ما يشاء وأن ينتخب من يشاء وأن يعبد من أو ما يشاء. وقد شاء القدر أن أصل إلى الهند فى مرحلة حاسمة بعد قليل من قرار رئيس الوزراء الهندي بإلغاء فئات النقد الكبيرة من فئة خمسمائة روبية وألف روبية وذلك في إطار مكافحة الحكومة الهندية لعمليات غسيل الأموال وهو ما ولد حالة من الغضب الشعبي وقد رأيت بأم عيني طوابير ممتدة أمام البنوك ومكاتب الصرافة لتغيير الأوراق النقدية القديمة منذ الصباح وحتى ساعات الليل ، وجعلني أستمع إلى مزيد من النقد للحكومة والنظام السياسي بل وللنظام الطبقي الذي يعد من مسلمات العقيدة الهندوسية.


 وقد نظم لنا المعهد زيارة ميدانية إلى مصنع Mother dairy لمنتجات الألبان الذي كان تابعًا للحكومة الهندية ثم تمت خصخصته في إطار اتجاه الهند إلى اقتصاديات السوق الحر. ومن خلال تلك الزيارة تعرفنا على قواعد الجودة في الصناعة الهندية والدور الاجتماعي والثقافي للقطاع الخاص في الهند حيث تلزم قوانين الهند القطاع الخاص بالتبرع ب 2 % من الأرباح لأنشطة خدمة المجتمع لا سيما التعليم والثقافة. وقد التزم المصنع المشار إليه بتطوير مدرستين في إحدى القرى الفقيرة وذلك في العام الماضي ، ومتابعة سير العمل في المدرستين للتأكد من محافظة الإدارة على ما تم إنجازه. وقد نجحت الخصخصة في الهند – عكس ما حدث فى مصر-  لأنهم لم يبيعوا أصول الدولة بالخسارة ولم يتربح المسئولون من البيع أو ربما تربح بعضهم ولكن بالمعقول وليس بالمليارات كما حدث فى مصر. كما قام المعهد الدولي للإدارة بنيودلهي بتنظيم عدة زيارات لمواقع ثقافية مختلفة في كل من نيودلهي وأجرا مثل تاج محل وهو بحق تحفة معمارية لا يقل جماله من الداخل عن جماله بالخارج ، و قطب منار وهو أشبه بمجمع أديان، وضريح المهاتما غاندي. وكانت متعتي الحقيقة أن أتجول فى الغابة القريبة من المعهد بالقرب من منطقة قطب الإدارية بالعاصمة الهندية نيودلهي حيث يوجد أحد المعابد الهندوسية وتعرفت عن قرب على بعض تقاليد الديانة الهندوسية ولاحظت شعور التسامح الذي يكنه معظم الهندوس تجاه أصحاب الأديان الأخرى والأمر ذاته بالنسبة إلى طائفة السيخ. كما لاحظت خلال جولة على الأقدام في ضواحي دلهي أن المسلمين السلفيين يتركزون في المناطق الأكثر فقرًا ولديهم مدارس لتحفيظ القرآن وقد أدهشتني رؤية عدد من النساء اللاتي يرتدين النقاب، رغم أن أغلبية مسلمي الهند من الشيعة.


. وقد طلبت – بصفة شخصية- زيارة دار الوثائق الهندية للتعرف عن قرب على طبيعة العمل هناك و استقبلني نائب المدير السيد راجا مانى ومسئول العلاقات العامة بحفاوة بالغة وأمدوني بكثير من المعلومات حول سير العمل وتاريخ المبنى الذي يقع في طريق جناباث بالعاصمة نيودلهي. وقد شعرت بعد هذه الزيارة – التى تمت قبل مغادرة الهند بيوم واحد- بسعادة بالغة وجرأة دفعتنى لمحاولة التقاط صورة تجمعنى بقرد صغير لطيف كان يستظل بشجرة أمام مقر الأرشيف الهندى لكن المحاولة انتهت بفضيحة عندما التفت لى القرد ثم توحش وحاول أن يعضني مطلقًا أصوات استغاثة ففوجئت بقبيلة من القرود تتجه نحوى فما كان منى إلا أن صرخت أو بمعنى أدق ( رقعت بالصوت الحيانى) وأنقذني الله فى اللحظة الأخيرة بعد أن تجمع حولي نصف سكان نيودلهي وهم يتعجبون من تلك السائحة التي تخشى القرود.  

 

 زيارتى لدار الوثائق الهندية

 

وفى النهاية عدت إلى القاهرة ومعي إجابة السؤال لماذا تقدمت الهند ؟ لديهم فقر وعدم عدالة اجتماعية وانفجار سكاني ولكنهم تقدموا . ربما تقدموا لأن التوك توك هناك بالعداد وهنا بالبركة  ولأن الفقراء هنا لا يتكلمون وهناك يصرخون ولا يلقى بهم النظام في المعتقلات مهما قالوا. تقدموا لأنهم يحافظون على تاج محل لدرجة أنهم يمنعون دخولك إلي حرم المكان بالأحذية وبالمأكولات بينما يمكنك أن تدخل إلى الأهرام لتأكل وتشرب وتلقى بقاذوراتك بل وتأخذ معك حجرا منها كتذكار دون أن يحاسبك أحد.



  تقدمت الهند بالإرادة.. إرادة سياسية وشعبية معًا ، وتقدمت بالعلم وبالمعرفة ، وتقدمت بالديمقراطية فالمقهورون لا يبدعون والمنتهكون في أوطانهم لا يعرفون كيف يرتقون بها و. عدت إلى قاهرة المعز وبداخلي امتنان عميق لدولة الهند الصديقة وشعبها المضياف حيث قضيت بينهم أيامًا لا تنسى لم أشعر خلالها بالغربة للحظة واحدة.  عدت إلى وطني ولكن .. لماذا أشعر بالغربة؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق