لم يعد للقرية حديث سوى "فتنة" تلك الفتاة التي غفا أهل القرية ذات ليلة واستيقظوا ليجدوها بينهم. لم يعرف أحد من أين جاءت وكيف اندست بين ظهرانيهم؟ لكنهم أجمعوا أن شباب القرية لم يتلف حالهم إلا بعد ظهورها.
وعندما وضعت "فتنة" طفلها الأول سألوها: - من أبوه؟ فقالت: هو ابن كل شباب القرية! وفي بضع سنين جاءت أكثر من فتنة وانتشر الأطفال مجهولو النسب في القرية. ولأنها كانت واقعة ليس لها سابقة في ذلك البلد، الذي كان طيبا، فقد اتفق الجميع على أن يدعى هؤلاء الأطفال بأسماء أمهاتهم وكبر ابن "فتنة" وهو لا يعرف عن جذوره شيئا سوى أنه "ابن فتنة" والتصق به المسمى حتى نسى اسمه.
لا أحد يدري من أين جاءه الشيطان بتلك الفكرة لكنه احتجب أو ارتحل شهورا ثم عاد إلى القرية وقد أطلق لحيته، وبدل لسانه العامي بلسان أقرب إلى الفصحى وصار يمر على الناس فما إن يسمع أحدهم يناديه:
- إلى أين يا ابن فتنة؟
ينتفض صارخا: بل أنا الشيخ فلان واحذر عندما تخاطبني فإن لحوم العلماء مسمومة!
وظل على تلك الحال والناس في عجب من أمره، بين مستنكر ومصدق، منهم من يقول أن باب التوبة مفتوح ومنهم من يؤكد أن العرق دساس!
وجاء اليوم المشهود عندما واجه الشيخ "ابن فتنة" إمام المسجد الفقيه العالم الذي امتحنه في مسائل دينية على رؤوس الأشهاد فثبت جهله بالدين وكذبه. وكان أبناء ساقطات القرية قد أطلقوا لحاهم وكونوا عصبة من الشيوخ الصغار وأجبروا أمهاتهم على التحاف السواد وليمارسن البغاء -كما أردن- تحصنا خلف النقاب. وكانوا قد احتشدوا خلف "ابن فتنة" في المناظرة وسمعوا الذي آتاه الله العلم يقول:
- ما أذكاها من حيلة! لحية وجلباب وتتحول من إبن فلانة إلى الشيخ فلان. والآن وقد ثبت جهلك وأتباعك فإننا لن نأخذ بعد اليوم ديننا من ابن فتنة وأمثاله.
لم يكن ثمة حل سوى أن يقتل هذا العالم ليخلو لهم وجه القرية، وقد كان. وفي يوم النحر أعلنوا أن حد الردة ينتظر كل كافر بهم وبنسختهم من الدين !
وهكذا تحول كل من العلم والشجاعة إلى صفتين مذمومتين في القرية، وتلفحت الحرائر بالسواد اقتداء بأم "ابن فتنة" لكن نار ابنها لم تبرد. كان ماضيه وماضي أمه يطارده فيأتيه أهل القرية في كوابيسه وكل منهم يناديه بوصمة عاره يا "ابن فتنة" وفي عيونهم الاستهزاء القديم.
عاش في هلع أن يعود به الحال إلى سابقه وصار يفزع من مواويل الفلاحين في الحقل، ومن ضحكات البنات التي لم يفلح النقاب في كتم صوتها، حتى مشهد المنازل التي بنيت من طمى الأرض وقشها وقام البسطاء بطلائها بألوان البهجة كانت تخيفه وأتباعه وأمهاتهن اللواتي احترفن بيع البهجة السرية المحرمة التي تورث القلب ثقلا والنفس ندما.
وما هى إلا بضع سنين إلا وقد أعلنت الحرب على كافة أشكال الحياة، وشاع حديث الموت والقبر وجهنم. وبعد القضاء على الغناء والضحك والألوان كان لابد من منع الشمس أن تشرق على تلك القرية واجتمع زبانية ابن فتنة يتدارسون طرق إطفاء الشمس. تلك الفاجرة كانت مصرة على مخالفة شرع جند الله، يكفرون الحب فتشرق على وجوه الفتيات في سن الطفولة ممن لم يدفنوا خلف ليل النقاب فيقع في الحب الأولاد الصغار دون الحلم.. يحرمون الرسم فيشع نورها في السماء ويغزو الحقول فيصنع لوحة فنية بديعه. أى فتنة وابتلاء!
أخفقت جماعة ابن فتنة في مسعاها لإطفاء الشمس فصدر القرار بالانسحاب إلى كهوف الجبل الرابض بين القرية والنهر وتم إعدام كل من رفض التنفيذ. لم يظهر لأى من أهل القرية أثرا بعد ذلك لكن الشمس استمرت في شروقها الأبدي كل يوم.